تباين المواقف العربية تجاه غزة- أزمة هوية أم خيانة استراتيجية؟

منذ بدء الاعتداء الإسرائيلي الغاشم على غزة قبل أربعة أشهر، تباين الموقف العربي بشكل سافر، حيث شهد انقسامًا حادًا بين الأنظمة العربية. هذا التباين يعكس تفاعلات معقدة لتحالفات إقليمية ودولية، والتي بدورها قوّضت من فاعلية المنظومة العربية في مواجهة الأزمات والتحديات الجسام.
ويرجع ذلك في جوهره إلى اعتبارات واقعية تتعلق بالصراع المحتدم على النفوذ بين القوى الدولية والإقليمية في المنطقة. تلك القوى عملت بدأب على تأجيج التوترات وإذكاء النزاعات الداخلية، بهدف ترسيخ هيمنتها وفرض سيطرتها على القرارات السيادية والاختيارات المصيرية. هذا الأمر ليس وليد اللحظة، بل يمتد بجذوره في أرجاء العالم العربي والإسلامي منذ أفول الحضارة المشرقية وتوهج شمس الحداثة والتقدم في الغرب، الذي امتلك أدوات تمكنه من إضعاف الآخرين لتعزيز قوته.
هذا فيما يتعلق بالبعد الموضوعي لتدهور الدور العربي وتراجعه. أما البعد الذاتي، فيرتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة المنظومة العربية ذاتها، وأنماط تشكيل السلطة والحكم فيها، إذ تقوم هذه المنظومة على القهر والاستبداد والإقصاء، مما يجعلها عاجزة عن التعبير عن الإرادة العامة وتلبية تطلعات الشعوب.
وهذا يفسر إلى حد كبير التباين والتناقض في مواقف واختيارات العديد من الأنظمة والدول العربية والإسلامية مقارنة بمواقف شعوبها فيما يتعلق بفلسطين والعدوان على غزة، وما نتج عنه من أزمة إنسانية مروعة. فالجمهور العربي برمته يعتبر فلسطين جزءًا لا يتجزأ من قضاياه الاستراتيجية، ولا يخضع لحسابات المصالح التجارية والاقتصادية التي تجعل لكل شيء ثمنًا ومكسبًا ماديًا، أي النظر إلى القضية بمنظور الربح والخسارة. بل إنها تمثل بالنسبة لهم قضية مبدأ جوهرية، باعتبارها القضية المركزية للعرب والمسلمين قاطبة.
وبالمثل، فإن غياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة، والافتقار إلى شرعية الإرادة العامة، وتلاشي المشروع الوطني، يشكل مدخلًا لفهم محددات الانقسام في مساريه؛ الانقسام الأفقي داخل النظام الرسمي العربي، والانقسام العمودي الذي يجعل من فلسطين عنصرًا يزيد من اتساع الفجوة بين الشعوب ونخبها الحاكمة. هذه القضية، التي يمكن أن يشكل فيها الموقف الصريح والضاغط لصالح غزة مدخلًا للمصالحة والتوافق السياسي والمجتمعي، نظرًا للرمزية العميقة التي تحتلها فلسطين في الوجدان والوعي العربي، إلا أن هذا لم يتحقق بعد.
الجمهور العربي وفلسطين: محدّدات في فهم الموقف
تتميز العلاقة بين الشعوب العربية والإسلامية وفلسطين بخصوصية فريدة. فعلى الرغم من حملات تزييف الوعي والتغذية المستمرة للانقسامات السياسية والثقافية التي تعرضت لها المجتمعات العربية، أو الحروب والنزاعات العنيفة التي استهدفت تفكيك النسيج الاجتماعي العربي والإسلامي، وترويج الروايات الكاذبة حول النكبة، وتقليص نطاق الصراع في مراحله المختلفة، من صراع عربي – إسرائيلي إلى صراع فلسطيني – إسرائيلي، وصولًا إلى صراع محصور في غزة بمكوناتها وفصائلها وإسرائيل، إلا أن الوعي والشعور العربي والإسلامي حافظ على مكانة استثنائية لفلسطين، وإن لم يظهر ذلك في بعض الدول بسبب القيود المفروضة على التظاهر والاحتجاج والتعبير عن الرأي. هذه المكانة تغذيها باستمرار ثلاثة منطلقات أو محددات رئيسية.
- أولًا: من منطلق المحدد الديني والتاريخي، فالأقصى في المخيال والتصور الديني الإسلامي هو أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي – صلى الله عليه وسلم-. وفلسطين هي مهد الرسالات وأرض النبوّات. ومن ناحية الوعي التاريخي والحضاري، تمثل فلسطين نقطة ارتكاز في جوانب الصراع التي مرت بها الحضارة الإسلامية مع الغزاة. فالسيطرة على أرض فلسطين تعتبر مؤشرًا على ضعف المكون الحضاري العربي والإسلامي، بينما يمثل تحريرها انبعاثًا متجددًا من تحت الرماد. وكأن التاريخ يعيد نفسه في تجارب حية للاعتبار والتبصر.
إن المحدد الديني لا يعني الانغلاق والتقوقع كما يظن البعض بناءً على تجارب مختلفة، أو إقصاء المكونات الدينية الأخرى. بل على العكس، فمنذ أن فتح المسلمون القدس في عام 15 هـ الموافق 636 ميلاديًا، تم تأمين ممتلكات وكنائس أهل إيلياء (القدس)، وكفل المسلمون فيها وفي غيرها من البلدان تعددًا فريدًا وحرية دينية وعقدية نادرة المثال. وتلاحم المسيحيون مع المسلمين جنبًا إلى جنب، واستمر هذا التلاحم الاجتماعي والثقافي قائمًا حتى اليوم، مما يجسد صبغة الحرية التي تميز بها النموذج الحضاري الإسلامي.
لا يزال هذا الأفق التحرري في فلسطين يستمد أصوله من البعد الديني، الذي يحتاج إلى قراءة مختلفة عما هو سائد بشأن الديناميكيات التي يخلقها الدين والأثر الذي يتركه. فإذا كان الدين يمثل عنصر إكراه في مجال حضاري معين، فهو عنصر تحرير في حيز آخر. بل إن المأساة التي تشهدها غزة اليوم توحي بانهيار السرديات والرؤى التي نظرت إلى المعطى الديني نظرة أيديولوجية ضيقة ومحصورة في قوالب جامدة.
ويكفي أن نقول إنه في العالم العربي والإسلامي، شكل الدين باستمرار عنصرًا باعثًا على التنوع والتعددية، ومؤلفًا للشعور الوحدوي. والقضية الفلسطينية هي من أبرز القضايا التي تؤثر من هذا المنطلق، وسيكون لها تأثير كبير على المدى البعيد.
- ثانيًا: وحدة الشعور والمصير العربي المشترك. لذلك نالت القضية الفلسطينية مكانتها الأولى سياسيًا منذ قرار التقسيم، وثقافيًا في مختلف أشكال الإبداع التي تعبر عن رمزية فلسطين في الوجدان العربي بأطيافه المختلفة.
أما تخاذل الموقف الرسمي العربي تجاه غزة وفلسطين، فإنه يعكس في الواقع تفريطًا في السيادة والاستقلال، وتعبيرًا عن عجز المنظومة العربية التي حافظت على الشكل والمؤسسات في لقاءات دورية روتينية، في غياب المضمون والروح العربية التي تجسد التطلعات والمصالح الاستراتيجية المشتركة. فهذه الأمور قد اضمحلت أو تلاشت، وأصبحت مجرد أماني.
- أما المحدد الثالث، فهو المنحى التحرري من الاستعمار. وتمثل فلسطين في هذا السياق آخر ضحايا النزعة الاستعمارية. ومن خلال هذا المنظور، تتجسد فلسطين بكثافتها الرمزية كفضاء يتلاقى فيه مختلف الإرادات الإنسانية من الشرق والغرب، والشمال والجنوب، لنصرة شعب يعاني من الاضطهاد والاستعمار. لذلك لا تحتل فلسطين مكانتها الأولى على المستوى العربي والإسلامي فحسب، بل هي بمثابة وخزة للضمير الإنساني برمته، والحافز له على الدعم من أجل إقرار الحرية وتقرير المصير.
ولكن على الرغم من رمزية القضية في الوجدان العربي والمسلم، والموقع الذي تبوأته سياسيًا في جدول الأعمال العربي والإسلامي الرسمي لعقود طويلة، فإن العدوان الراهن، وتقاعس العرب والمسلمين عن القيام بالدور المطلوب، يدفع إلى التساؤل عن أسباب العجز وعدم فاعلية الموقف العربي. ولسنا نحن من يصف ذلك بالعجز والتقاعس، بل هي استغاثة المكلومين في غزة التي لم تجد آذانًا صاغية.
الموقف العربي الرسمي من العدوان على غزة
بكل أسف وأسى، يمكن القول إن الموقف الرسمي العربي والإسلامي في عمومه، شكل حافزًا مباشرًا أو غير مباشر لاستمرار العدوان على غزة وإبادة أهلها. وبعبارة أخرى، فإن وقف العدوان لا يتوقف فقط على ما سيصدر من البيت الأبيض أو مجلس الأمن أو حكومة الحرب في إسرائيل، وإنما يتطلب تجاوز الانقسام العربي والخروج من الرؤى الضيقة للأحداث والعناصر الفاعلة فيها، والانتقال إلى رؤية شاملة للقضية الفلسطينية برمتها وانعكاساتها على الخيارات الاستراتيجية للوجود العربي. وهذا يقتضي اتخاذ خطوات عملية للضغط السياسي على إسرائيل وكبح عدوانها على أهل غزة.
أما التصريحات الإعلامية، فهي ترقى إلى مستوى رسائل الود والمجاملة، ولا تعبر عن إجراءات مقنعة أو مواقف يمكن اعتبارها مساندة حقيقية للحق الفلسطيني. فالخطوات التي تتخذها بعض الدول العربية والإسلامية في الاتجاه المعاكس، أي في تعزيز العلاقات الاقتصادية والسياسية مع إسرائيل، مقابل العجز عن حل الأزمة الإنسانية البسيطة المتمثلة في توفير الغذاء والدواء، يعود إلى أسباب عدة تتعلق بالمنظومة العربية:
أولًا: الانشطار والانقسام الأفقي في الصف العربي، وانحراف بعض الدول منفردة في خيارات استراتيجية لا تعبر عن الضمير العربي الأصيل.
وهذا يعكس أزمة عميقة في المنظومة العربية الرسمية، تتجلى في غياب رؤية استراتيجية تحمي المصالح العربية العليا. وهي مصالح لا يمكن أن تتحقق على حساب تصفية القضية الفلسطينية أو المساومة عليها ضمن خيارات تتعارض مع رغبة الجمهور العربي والإرادة الشعبية. هذه الرغبة متجذرة في المحددات التي ذكرناها سابقًا، والتي تجعل فلسطين على رأس الأولويات. بل إن عدم اتخاذ مواقف صريحة وإجراءات عملية سيزيد من اتساع الفجوة بين الأنظمة وشعوبها، ويغذي الطموحات نحو التغيير الجذري في المستقبل.
ثانيًا: تحول القضية الفلسطينية إلى عبء ثقيل على كاهل بعض النخب والأنظمة العربية. فالقضية الفلسطينية في نظرهم مجرد مشكلة، ولا يهم الطريقة التي يتم بها إيجاد حل لها. وهذا يعكس طبيعة النخبة الحاكمة ومجموعة منتقاة من الطبقة السياسية وولاءاتها ومصادر قوتها واستمراريتها. فهي لا تستمد قوتها من قيم ومبادئ العصر السياسية، أي من احترام الإرادة الشعبية ضمن مشروع وطني يحقق السيادة والاستقلال في القرار، كما أن التقدم لا ينبع من داخل الذات الثقافية والدينية والحضارية مع الانفتاح على روح العصر.
فمصادر القوة والولاء والاستمرارية في الحكم مستمدة من الوكيل والراعي الأكبر للنظام الدولي، ومسارات التقدم تقتضي تنويرًا زائفًا يعمل على تفكيك القدرات الثقافية والقيمية التي تشكل حصنًا منيعًا، ودافعًا للفعل التحرري بدوافع أخلاقية تنظر إلى فلسطين كجزء لا يتجزأ من الذات الحضارية العربية والإسلامية.
هذا الوعي يشكل في منظور الطبقة السياسية الحاكمة تحديًا خطيرًا يفكك الأنساق السياسية وارتباطاتها المناهضة لإرادة الأمة ومصالحها الحقيقية، أي أنه باعث لتحرر مزدوج داخلي وخارجي. ومن ثم فإن إزالة العبء الفلسطيني تعتبر بمثابة تسوية كاملة تخدم الأهداف والرغبات المتحكمة في دوافع تلك الأنساق والأنظمة. ولكن هذا في واقع الأمر يعكس حالة من العمى الاستراتيجي وعدم الوعي بالتاريخ والسنن الاجتماعية، وسيؤدي في النهاية إلى نتائج عكسية تمامًا.
ثالثًا: الخصومة الأيديولوجية والسياسية مع بعض مكونات البيت الفلسطيني، مما أدى إلى حالة من الصمت المريب أو التعبير إعلاميًا وسياسيًا عن مواقف وتقديرات قد تضر بغزة وفلسطين وتخدم أجندات أخرى. بل وصل الأمر إلى حد تقديم ضوء أخضر لعملية الاستئصال المزمعة التي تحقق رغبات دفينة لدى بعض أفراد الطبقة الحاكمة هنا وهناك.
وهذا ينطوي على خلل من ناحيتين: الناحية الأولى هي عدم التمييز بين الخلاف الأيديولوجي الذي لا إشكال فيه والمصالح الاستراتيجية للدول والمنطقة التي تسمو على ضيق الأيديولوجيا والحسابات الضيقة. ثم من ناحية أخرى، فإن الإضرار بأركان البيت الفلسطيني وتدمير غزة بالكامل وإعادة احتلالها وإنهاء المكونات الفلسطينية الفاعلة كما يعلن مجلس الحرب، يعتبر إضرارًا بالأمن القومي والمصالح الاستراتيجية المصرية والخليجية والعربية والإسلامية على حد سواء. وهذا يستدعي مراجعة للموقف والضغط والمساندة الفعلية للحق الفلسطيني.
ختامًا، يشكل الموقف العربي الرسمي في صيغته الحالية، قطيعة مع التاريخ وتعبيرًا عن خلل أو خطيئة استراتيجية ستكون تكلفتها باهظة على المدى المنظور. كما أنه منفصل تمامًا عن الوجدان العربي والإسلامي والموقف الشعبي. وهو بذلك لا يقدر رمزية القضية وحجم الكارثة التي حلت بغزة وستحل بفلسطين، وبالتالي ستحل بباقي الأنظمة والدول في المنطقة. ذلك أن فلسطين تمثل حافزًا للضمير والوعي العربي والإسلامي، لما لها من قدسية ومكانة، ولأنها تعبر عن حالة من النقاء والطهر تلهم التحرر الإنساني برمته، وتعرّي المنظومة الدولية في جوانبها الأخلاقية والسياسية والحقوقية، بسبب تواطئها مع آخر الظواهر الاستعمارية.
لذلك فإن مراجعة الموقف العربي بهدف تحقيق ضغط فعال لوقف العدوان ومنع الأزمة الإنسانية والمجاعة التي تفتك بأهل غزة في زمن الوفرة والترف والاستهلاك، يعتبر واجبًا ملحًا من جوانب متعددة: أخلاقية وسياسية واستراتيجية ودينية. وإلا فإن ما يجري في غزة ستكون له ارتدادات كبيرة على المستويات العربية والإسلامية والإنسانية، من ناحيتي الوعي والفعل. وعربيًا، ستكون آثاره مباشرة على المنظومة القائمة. كما أنه يسجل الخروج الفعلي للعرب من التاريخ. وبكل صراحة، فإن بعض أشكال الصمت والخذلان تمثل خطيئة استراتيجية جسيمة. فهل من متعظ؟!
